إلي رحمة الله

 

الأديب والروائي العربي الرائد نجيب محفوظ

 1330-1427هـ = 1911-2006م

 

 

  

 

  

 

 

كان عليَّ – حسب العادة التي التزمتُها فيما يتعلق بالأعلام الذين يموتون – أن أكتب هاتين الترجمتين في وقتهما لدى وفاة العلمين المُتَرْجَم لهما؛ ولكن أَخَّرَني عن ذلك ما يؤخِّرني عادةً من عوارض المرض والأشغال التي تفرض نفسَها عليَّ فرضًا يُفَوِّت عليّ الفرصة المناسبة للتحدّث عن مثل هذين العلمين الأدبيين العلميين الآتية ترجمتهما ؛ فمعذرة إلى القراء [رئيس التحرير]

 

       بعد مُعَـانَـاة طـويلــة مع مُضَاعَفَــات الشيخوخة والمرض ، مات الأديب المصريُّ والروائيُّ العربيُّ الرائدُ نجيب محفوظ الحائزُ جائزةَ نوبل للآداب لعام 1988م . وذلك في مستشفى الشرطة المُطِلِّ على النيل، بحيّ العجوزة وسط القاهرة ، في الساعة الثامنة والدقيقة الخامسة من صباح يوم الأربعاء: 6/شعبان (بالتقويم العربي) و 5/شعبان (بالتقويم الهندي) 1427هـ الموافق 30/ أغسطس 2006م، عن عمر يُنَاهِز 95 عامًا . وحسبما قال مصدرٌ طبّيٌّ: تُوُفِّيَ محفوظ في وحدة العناية المُرَكَّزَة جرّاءَ قرحة نازفة بعد ما أصيب بهبوط مُفَاجئ في ضغط الدم وفشل كلويّ . وكان الفقيدُ أُدْخِلَ المستشفى يومَ الخميس 16/رجب (بالتقويم العربي) و 15/ رجب 1427هـ (بالتقويم الهندي) الموافق 10/ أغسطس 2006م لإصابته بمشاكل في الرئة والكليتين . وكان قد أُدْخِلَ المستشفى ذاتَه في جمادى الثانية 1427هـ = يوليو 2006م ، إثر سقوطه في الشارع، وإصابته بجرح غائر في الرأس اقتضى إجراءَ عملية جراحية فوريّة .

       و وَدَّعَه المصريّون يوم الخميس : 7/شعبان (بالتقويم العربي) 1427هـ الموافق 31/ أغسطس 2006م ظهرًا في جنازتين ، كانت الأولى شعبية في منطقة الحسين . وهي من أعرق المناطق الشعبية بمصر . وقد احتشد الآلاف من رجال الشارع والبُسَطَاء الذين اسْتَلْهَمَ منهم أبطالَ رواياته ، وأقاموا على جثمانه صلاةَ الجنازة في مسجد الإمام الحسين . وذلك تنفيذًا لوصيته . وتَقَدَّمَ المُشَيِّعِين شيخُ الأزهر الشيخ محمد سيد طنطاوي ، ومفتي الجمهورية الدكتور علي جمعة ، ووزير الأوقاف الدكتور محمد حمدي زقزوق ، ومئات المثقفين والأدباء ، إضافةً إلى الآلاف الذين امتلأت بهم ساحةُ المسجد بالداخل والخارج ، وحشدٌ كبير من وكالات الأنباء العربية والعالمية ورجال الإعلام والصحافة . وأم الجنازةَ شيخُ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي .

       بعد ذلك نُقِلَ الجثمانُ إلى مسجد آل رشدان بمنطقة مدينة نصر، حيثُ أُقِيمَتْ جنازة عسكريّة مهيبة ؛ حيثُ وُضِعَ الجثمان على عربة مدفعية تجرّها الخيول ملفوفًا بعلم مصر . وتَقَدَّمَها الرئيس المصريّ حسني مبارك ، ورئيس مجلس الوزراء المصريّ الدكتور أحمد نظيف ، ورئيس ديوان الجمهورية الدكتور زكريا عزمي ، وأمين عامّ جامعة الدول العربية عمرو موسى ، و وزير الإعلام والثقافة ، وكبار المسؤولين والوزراء ، والأدباء والصحفيون من مصر والعالم العربي . كما حضر الجنازةَ أصدقاء الفقيد ، منهم توفيق صالح ، وجمال الغيطاني ، ويوسف القعيد ، ومحمد سلماوي رئيس تحرير الأهرام الأسبوعية ، ويوسف الرخاوي ؛ وعددٌ من الروائيين المصريين، منهم عزت قمحاوي، والشاعر إبراهيم داؤود ، والناشر محمد هاشم ، إلى جانب كثير من القصاصين والأدباء والشعراء والمثقفين المصريين .

       لُوحِظَ في تشييع الجنازة غيابُ تَجَمُّعٍ شعبيٍّ جدير بالذكر؛ حيثُ لم يحضر صلاةَ الجنازة سوى نحو 200 شخص ؛ ولكن ساحة مسجد الحسين كانت مليئة بمئات بل آلاف من رجال الشرطة .

       وبمناسبة إقامة الصلاة على الفقيد بمسجد الحسين ، قال شيخ الأزهر الدكتور محمد سيّد طنطاوي في كلمة ألقاها على الحضور : «إن نجيب محفوظ أحد مفاخر مصر، وإنه قيمة عالمية ؛ حيث خرج بأدب مصر من المحلية إلى العالميّة ، ورفع من قيمة الأدب العربي عاليًا» . وقال مفتي الجمهورية الدكتور محمد علي جمعة : «إنّ محفوظ أحبّ مصر وشعبها وآل البيت ، وأخلص لعمله ولوطنه ، وأوصى أن يُصَلَّى عليه في مسجد الحسين حفيد الرسول في المكان الذي شهد مولَده – نجيب محفوظ – ليكون بداية ونهاية لرحلته».

*  *  *

       وُلِدَ نجيب محفوظ في 11/ ديسمبر 1911م (19/ محرم 1330هـ) في حارة «درب قرمز» الواقعة في ميدان «بيت القاضي» بحي «الجمالية» بالقاهرة القديمة بالمنزل رقم (8) . واسمه هو نجيب محفوظ بن عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد باشا . واسمه مركب من اسمين . وذلك تقديرًا من والده للطبيب المعروف الراحل نجيب محفوظ الذي أشرف على ولادته . عاش طفولته في حي «الجمالية» ثم انتقلت أسرته إلى حي «العباسيّة» عام 1924م (1342هـ) عندما كان نجيب في 12 من عمره ؛ حيث اشترى والده منزلاً بـ(1000) جنيه مصريّ . وبما أن الطفولة ذكرياتها عزيزة على صاحبها فظل مشدودًا إلى «الجمالية» . وعاش نجيب شبابَه وبعضَ رجولته في «العباسية» حيث انتقل منها بعد زواجه إلى «الحسين» و «الغوريّة» . وظلّ يتردّد على هذه الأحياء ويرتاد مقاهيها والمقاهي الأخرى في القاهرة.

       في سنّ الرابعة من عمره أُلْحِقَ بكُتَّاب «الشيخ بحيري» في حيّ «الكبابجيّ» بالقرب من درب «قرمز». وتَلَقَّىٰ فيه ما أَهَّلَه للالتحاق بمدرسة بين القصرين الابتدائيّة . وتَدَرَّجَ في التحصيل ، حتى التحق بالجامعة عام 1930م وعمره نحو 19 عامًا ، وحصل على شهادة ليسانس الآداب قسم الفلسفة عام 1934م (1353هـ) من جامعة فؤاد الأوّل (جامعة القاهرة حاليًّا) . وأَتَمَّ دراستَه الابتدائيّةَ والثانويّةَ وعمره لم يتجاوز 18 سنةً . مما أكّد ذكاءَه ونجابتَه واجتهادَه وجديّته في الدراسة . وبدأ الكتابةَ وعمره لم يتجاوز 19 عامًا .

       بدأ نجيب محفوظ مشوارَه الدراسي في صباه على شاكلة الصبيان الآخرين الذين هم عادةً لا يرغبون في القراءة والجلوس في الكتاب، وإنما يُساقُون في الأغلب إليه – الكتاب – سوقًا ؛ ولكن التوفيق سَاعَدَه عاجلاً؛ فصار ينجذب إلى الدراسة وبدأ يعكف عليها ، حتى صارت هي هوايته في الحياة ، حتى قيل : قلما يُوْجَد نظيره بين الأدباء والمثقفين المعروفين في حرصه على القراءة المكثفة والمتنوعة لكل نوع من الكتب .

       وقد حكى نجيب بنفسه قصةَ كراهيته للدراسة في صباه ثم مساعدة التوفيق له حتى غدا مُكِبًّا عليها . وهكذا يتحقق ما تشاؤه الأقدار . يقول نجيب :

       «ذهبتُ ذاتَ صباح إلى مدرستي الأوليّة محروسًا بالخادمة ، سرتُ كمن يُسَاقَ إلى سجن، بيدي كراسة وفي عيني كآبة ، وفي قلبي حنين للفوضى ، والهواء البارد يلسع سَاقَيَّ شبهَ العاريتين تحت بنطلوني القصير . وجدنا المدرسةَ مُغْلَقَةً ، والفَرَّاشُ يقول بصوت جهير :

       بسبب المظاهرات لادراسةَ اليوم أيضًا .

       غمرتني موجةٌ من الفرح ، طارت بي إلى شاطئ السعادة . ومن صميم قلبي دعوتُ اللهَ أن تدوم الثورة للأبد ! » .

       ثم يحكي قصّةَ حدوث الرغبة في الدراسة ، فيقول :

       «في صبايَ مَرِضْتُ مَرَضًا لاَزَمَنِي بضعةَ أشهر، تَغَيَّرَ الجوُّ من حولي بصورة مُذْهِلَة ، وتَغَيَّرَتِ المعاملةُ ، وَلَّتْ دنيا الإرهاب ، وتَلَقَّتْنِي أحضانُ الرعاية والحنان : أُمِّي لا تُفَارقُني ، وأبي يَمُرُّ عليَّ في الذهاب والإياب ، وإخوتي يُقْبـِلُون بالهدايا ، لازجرَ ولا تعييرَ بالسقوط في الامتحانات .

       «ولمـّا تَمَاثـَلْتُ للشفاءِ ، خِفْتُ أشدَّ الخوف الرجوعَ إلى «الجحيم»!. عند ذاك خُلِقَ بين جوانحي شخصٌ جديدٌ : صَمَّمْتُ على الاحتفاظ بجوّ الحنان والكرامة ، إذا كان الاجتهادُ مفتاحَ السعادة فَلأَجْتَهِدْ مهما كَلَّفَنِي ذلك من عناء . وجَعَلْتُ أَثِبُ من نجاح إلى نجاح ، وأَصْبَحَ الجميعُ أصدقائي وأحبائي . هيهاتَ أن يفوز مَرَضٌ بجميل الذكر مثلُ مَرَضِي» . («أصداء السيرة الذاتية» صحيفة الجزيرة، ص 32 ، العدد 12387، من السنة 46، الصادر يوم الاثنين 4/ من شعبان 1427هـ ، 28/ من أغسطس 2006م) .

       تَزَوَّج نجيب محفوظ عام 1955م (1374هـ) عندما كان في 44 من عمره ، ولم يُنْجـِبْ سوى بنتين : هما فاطمة وأمّ كلثوم . كان نجيب من الطبقة الوسطى المصرية في القاهرة . كان أبوه عبد العزيز تاجرًا ، فمُوَظَّفًا ، ومعظمُ أفراد أسرته مُوَظَّفُون أو مُلاَّكُ أرض صغارٌ أو مُزَارِعُون بُسَطَاء كادحون . كان والدُه يحلم له بوظيفة مرموقة – مثلاً وكيل نيابة أو طبيب – أمّا نجيب فكان يحلم منذ أن كان صبيًّا أن يكون لاعبَ كرة قدم ، وأحيانًا كان يحلم أن يكون فيلسوفًا أو طبيبًا أو موسيقيًّا ؛ ولكن القدر شاء له أن يكون أديبًا بارزًا يحتلّ احترامَ جميع أصحاب المهن الأخرى إلى أن حَظِي بأعلى المناصب في قلوب القراء .

       تَوَلَّى عددًا من الوظائف الحكومية ؛ فكان مديرًا للرقابة على المُصَنَّفَات الفنية ، ومديرًا لمؤسسة دعم السينما ، ورئيسًا لمجلس إدارتها ، ثم رئيسًا لمؤسسة السينما ، وكذلك كان مستشارًا لوزير الثقافة لشؤون السينما . وأُحِيلَ إلى التقاعد عام 1971م (1391هـ) .

*  *  *

       وبَدَأ حياتَه الكتابيةَ وهو طالبٌ بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًّا) محررًا في مجلة «المجلة الجديدة» التي كان يُصْدِرُها الكاتب المصريّ «سلامة موسى» (1304-1378هـ = 1887-1958م) ونُشِرَتْ أول مقالة له في أكتوبر 1930م (جمادى الأولى 1349هـ) وكان الكاتب في نحو 19 عامًا من عمره . وكان عنوانها «احتضار مُعْتَقَدَات وتولّد مُعْتَقَدَات». وكذلك نُشِرَ له في مجلة «المعرفة» التي كان يُصدِرُها عبد العزيز الإسلامبولي تحت عنوان «اِعْرِف نفسَك بنفسك» ونُشِرَ له أيضًا في مجلة «الثقافة» لصاحبها الكاتب الكبير الدكتور أحمد أمين . بداياتُه الأولى هذه تؤكّد أنه كان ميّالاً إلى الكتابة منذ سنيه الأولى ؛ ولذلك انصرف عن إتمام أطروحته في الفلسفة ، التي كان بصدد إعدادها بعنوان «مفهوم الجمال في الفلسقة الإسلامية» لأنّه اكتشف أنّه أديب قصَّاص، وأنه خُلِقَ كاتبًا أديبًا ، وأن غير الأدب والكتابة لاينبغي أن يكونا هوايتَه الطبيعيّة ؛ لأن طبيعته منحدرة بسرعة إلى مزاولة الأدب وممارسة الكتابة، وأن دخيلته تختار القصّة وسيلةً للتعبير عن موهبته وذكائه .

       كثيرٌ من الناس يودّون أن يكونوا كُتَّابًا مُبَرِّرِين يُشَار إليهم بالبنان ؛ ولكنهم لايكونون رُبْعَ نجيب أو ثـُلَثَه أو نِصْفَه فضلاً عن أن يكونوا مثلَه تمامًا . ذلك أنّ مُعْظَمَ النّاس يَتَمَنَّوْن فقط ولا يعملون ، أو يعملون ولكن لا يأتي عملهم وجدهم وانقطاعهم إليه للنصاب المطلوب . أمّا نجيب فلم يكتف بالتمني والتخطيط فقط ، وإنّما انهمر على العمل : الدراسة المكثفة والقراءة المتنوعة ، وتَوَفَّرَ مع ذلك على الكتابة ، وأَخَذَ نفسَه بمبادئ صارمة وعادات وطقوس مضبوطة ، لم يخترقها قطّ ، ولم يُغَيِّرْ فيها حتى في حالة المرض والوقايات التي أملاها عليه الأطبّاءُ ؛ فكان مُنَظِّمًا تنظيمًا دقيقًا لوقته ، مُتَقَيِّدًا بمواعيده ، حتى ذكر زملاؤه وزُوَّاره أنهم كانوا يضبطون عقارب الساعة بموعد قدومه للعمل أو للزيارة. وكان مُوَزِّعًا لأوقاته في الصباح والمساء ، مُحَدِّدًا ساعات معلومة للقراءة والكتابة ؛ فكان لايلتقي أصدقاءَه إلاّ كل يوم خميس في «مقهى الفيشاوي». وكان يقضي فصلَ الصيف في الإسكندرية وفصلَ الشتاء في القاهرة . وكان ينتهي من العمل في الثانية ظهرًا ، ثم يعود إلى البيت ، ويتناول الغداء ، ثم يستريح لبعض الوقت، ثم يستعدّ للرابعة مساءً للكتابة لمدة ثلاث ساعات ، ثم يترك فترة رَاحة قصيرة ، ويتناول العَشَاءَ ، ويعاود القراءةَ والكتابة ، وحين تدق الساعة الثانية عشرة ليلاً يكفّ عن الكتابة مهما أَلَحَّتْ عليه الرؤى والأفكار . فكان لا يكتب أعمالَه الروائيّة إلاّ على مكتبه في البيت . أما سيناريوهات الأفلام ، فأغلبها كان يكتبها في المقهى . وذلك لمدة سبع سنوات فقط خَصَّصَها لكتابة السيناريوهات السينمائية ، وهي الفترة التي امتدت من 1953م (1372هـ) إلى 1959م (1379هـ) . وأَلْزَمَ نفسَه بالقراءة المكثفة في شتى العلوم والمعارف . وذلك ما لايعتاده معظمُ الكتاب والأدباء . ومن هنا وَصَلَ الرجلُ إلى العالميّة ، والإنجازات الرائعة ، والشهرة الواسعة ، التي يتمناها  الكثيرون من الكتاب والأدباء والمثقفين ؛ ولكن أحلامهم تَتَبَخَّرُ ؛ لأنهم لايتعودون مكابدةَ نجيب ومعاناته الثابتة في سبيل الجد والاجتهاد .

       إلى جانب ذلك كان يتّسم بوجه بشوش ، وروح مَرِحَة ؛ فكان كثير المداعبة ، يُطْلِق نكاتٍ لطيفة وتعليقاتٍ «لاذعة ساخرة» فكان مجلسه مُمْتِعًا للأصدقاء ، ولم يكن لديه مكانٌ للامتعاض والاستياء إلاّ لأسباب مُلِحَّة . وكان نظيفًا من النرجسيّة وعشق الذات (Narcissism) والأنانية (Sefishness) وداء العظمة وتورّم الذات ؛ لأنّها أدواء إنما تَتَوَلَّد من مُرَكَّب النقص أو الدونية (Inferiority) . أمّا ذوو المواهب والمُؤهِّلات ،والجدّ والاجتهاد ، وصانعو الذوات ، فهم يكونون في غنى عنها ؛ لأن لديهم رصيدًا واقعيًّا من عناصر المجد والعلا والعزّ والفخار، فلا يحتاجون لغيره من «الأرصدة الفارغة» .

*  *  *

       امتدَّتْ رحلة نجيب محفوظ مع الكتابة أكثرَ من 70 عامًا ، وأَنْتَجَ خلالها خمسين كتابًا ما بين روايات طويلة ، وقصص قصيرة ، ومسرحيات و مقالات صحفية ، ودراسات وتحليلات سياسيّة تَرَكَّزَتْ رواياته على المدينة: القاهرة وحاراتها الشعبية ؛ فقد تَنَاوَلَ المجتمعَ القاهريّ بجميع تحوّلاته الاجتماعية والسياسيّة خلال قرن من الزمان . أَوْجَدَ لنفسه عالمًا خاصًّا أغلقه على نفسه وأبدع فيه وأنتج في شأنه أدبًا رائعًا فريدًا . هو عَالَم الحارة المصريّة، المتضوعة بعبق الماضي، والمشعة بأمل المستقبل ، المتمثلة في الفقراء والمسحوقين ، والدراويش والمُهَمَّشِين . والحرافيش والكادحين . إنّ نجيب الذي لم يكن لديه جواز سفر، ولم يغادر مصرَ، ولم يركب طائرةً ، ولم يحبَّ السفر، وإنما عشق القاهرة ومقاهيها ، حَصَرَ نفسه في مدينته القاهرة ، وغاص في أعماق مجتمعه المصري ، وخرج منه بأدب عالمي شَرَّقَ وغَرَّب ، وتَجَوَّلَ وطَوَّفَ ، وسافر وتَرَحَّلَ ، أصبح له بمنزلة جواز سفر عالمي ، لم يمنع من دخول قطر من أقطار العالم؛ حتى نُقِلَت أعماله الأدبية إلى 33 لغة من لغات العالم .

       لغتُه سهلةٌ سهلاً ممتنعًا ، قوامُها الفصحى التي قد تتخلّلها عامِّيَّةُ مصرَ لإثارة معنى ، أو تكريس حقيقة ، أو تصوير واقع كما هو، تمتاز بجزالة اللفظ، ولباقة الصياغة ، وشاعريّة المعنى ، ولطافة الإشارة ، وروعة الفكر، والتعبير الصادق عن نبض المجتمع ، وحياته المفعمة بالتناقض ، والاستلهام من الجزئيات المجتمعية ، الأفكارَ والنصوصَ ، والشخوصَ والأبطالَ ، بإيمانهم وإنكارهم ، وثورتهم وتمرّدهم ، وقلقهم وضياعهم ، وحزنهم وسرورهم ، وجدّيتهم وهزلهم .

       كانت روايتُه الأولى «عبث الأقدار» التي صدرت عام 1939م (1358هـ) أي بعد حصوله على شهادة الليسانس في الفلسفة عن جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًّا) بخمس سنوات . ثم صدرت له روايتان «رادوبيس» عام 1943م (1362هـ) و«كفاح طيبة» عام 1944م (1363هـ) . تُمَثِّل – حسب الدراسين للكتابات نجيب – الروايات الثلاث المرحلةَ الأولى من كتابات محفوظ ضمن مشروع أراد من خلاله أن يكتب تاريخَ مصر بدءًا من عصر الفراعنة ؛ لكنه انصرف عن هذا المشروع ، وبدأ مرحلة ثانية في كتابته أَرَّخَ فيها للحياة المصريّة في الفترة بين الحربين العالميتين . وبهذه المرحلة تطوّرت كتاباته ، فأصدر روايته «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي» عام 1945م (1364هـ) و«زقاق المدق» 1947م (1366هـ) و«بداية ونهاية» 1950م (1369هـ) ووصلت كتاباته إلى القمة بروايته المسماة بـ«الثلاثية» التي أنهى كتابتَها عام 1952م (1371هـ) ولكنها لم يتم نشرها لعام 1956م (1375هـ) لحجمها الضخم الذي جعل الناشرين يحجمون عنها . وضمّت «الثلاثية» رواية «بين القصرين» ورواية «قصر الشوق» و رواية «السكرية» . وتَزَامَنَ انتهاؤه من كتابة الثلاثية مع قيام ثورة يوليو . وخلال الفترة ما بين 1953م (1372هـ) و 1959م (1379هـ) تفرّغ لكتابة السيناريوهات السينمائية . وفي عام 1959م (1372هـ) طلع على قرائه برواية مختلفة تمامًا عن رواياته السابقة . وهي رواية «أولاد حارتنا» الشهيرة التي اشتملت على إساءات للقيم الإسلامية والآداب الإنسانية، فمُنِعَت في جميع أنحاء الوطن العربي ما عدا «لبنان» . ثم بدأ محفوظ اتجاهًا ثالثًا في كتابته، انتقل فيه من الكتابة الواقعية إلى الكتابة الوجوديّة (Existential) التي تُرَكِّز على الأفراد ومصائرهم واختياراتهم . وصارت شخوصه أكثر وضوحًا في التعبير عن آرائها السياسية واتجاهاتها الفكرية . ومن أشهر رواياته في تلك الفترة «اللصّ والكلاب» 1961م (1381هـ) و«السمان والخريف» 1962م (1382هـ) و«الطريق» 1964م (1384هـ) و«ثرثرة على النيل» 1966م (1366هـ) و «ميرامار» و«الشحاذ» 1967م (1387هـ) و«المرايا» 1972م (1392هـ). وفي عام 1975م (1395هـ) دَشَّنَ محفوظ مرحلتَه الرابعة ؛ حيث بدأ في البحث عن أسلوب جديد يُمَيِّز الروايةَ العربيةَ . ومن أبرز رواياته في هذه المرحلة «ملحمة الحرافيش» 1977م (1397هـ) و«ليالي ألف ليلة» 1981م (1401هـ) وفي عام 1988م (1408هـ) نال نجيب جائزةَ نوبل ، وكانت مرحلة جديدة في حياته ؛ حيث تَعَرَّف إليه العالم الغربيّ ، وتُرْجِمَتْ بعد ذلك معظمُ أعماله . وفي أواخر عمره بَدَأَ تجربةً مختمرة في حياته بعنوان «أحلام فترة النقاهة» وهي عبارة عن مقطوعات نثرية قصيرة جدًّا ؛ لكنها تُعَبِّرُ عن خلاصة تجاربه في الحياة .

*  *  *

       إنّ نجيب الأديب العربيّ المبدع العالميّ الذي بلغ القمّةَ في كتاباته العربيّة ، والذي كان على جانب كبير من الخلق الإنساني ؛ حيث كان يهتم اهتمامًا بالغًا بتعزية المعارف وتهنئتهم ، وعيادتهم والسؤال عن أحوالهم ، والردّ على جميع الرسائل والخطابات والمكالمات التي تصله بغض النظر عن طبائع أصحابها . وكان حريصًا جدًّا على التواصل مع الأصدقاء والمعارف عبر الزيارة والتلفون والخطاب . وكان دائم الاهتمام بالتواصل مع الأقارب وأفراد العائلة في جميع المناسبات ، وكان يشاركهم الأحلام والأحزان .. إنّ نجيب الأديب ، الفنان ، الإنسان فشل في أن يكون إسلاميًّا في كتاباته ونتائج أفكاره وحصيلات قلمه . وكان ذلك أكبر مصرع له في الحياة ؛ حيث فاته أن يُسَخِّر قلمه لخدمة الرسالة الإسلامية ؛ فيكون ذلك ذخرًا للآخرة الباقية في هذه العاجلة الفانية التي طُوِيَ بساطه فيها على الرغم منه . إن هذا الأديب البارع الذي تعلّم فن جرّ القلم بلباقة، وأدرك قيمة الكلمة والفقرة والتعبير الدقيق عن فكــرة ومعنى ، لم يدرك قيمةَ اتصال المسلم بقافلة الحق والخير وركب الدعوة والرسالة وتكريس القدرة الكتابية الكبيرة لخدمة المنهج الإسلامي في الحياة . ولو كان كذلك لكان ذلك مكسبًا له كبيرًا في الحياة الدنيا التي رَحَلَ عنها شاء أو أبى ، ولكان أيضًا مكسبًا للصف الإسلامي والتيار الديني ، ولتحقق المشروع الإسلامي الشامل لتطبيق منهاج الأدب الإسلامي في ربوع الدنيا ، ولربما خَسِرَ إذَنْ جائزة نوبل التي لم تكن إِذَنْ لتسعى بين يديه طالبةً وُدَّه ؛ لأنها مُحَرَّمة على الإسلاميين ؛ ولكنه لكان قد نال الجائزة الإلهية التي لاتعدلها جائزة مهما جلّت ، ألا وهي الجنّة .

       من المؤسف أن هذا الأديب العربي العظيم لم يفته فقط أنه خانه التوفيقُ ؛ فلم يكن إسلاميَّ النزعة والمنهاج ؛ بل ظلَّ عبر حياته الكتابيّة واقفًا موقفًا سلبيًّا منه ومعاديًا للتيّار الإسلامي العداءَ كلَّه، وظلّ ينتج أدبًا أجوف فارغًا ، بل أدبًا منحازًا للمجون والهوى ، وشهوة النفس ، والإشادة بالغانيــات . واعترف بدوره بعدائــه للتيار الإسلامي ، فقال : «كان «عبد الحميد جودة السحّار» صديقي، وكان مُوَاظِبًا على حضور دروس الشيخ «حسن البنّا» ، وكثيرًا ما كان يدعوني لمشاركته الحضورَ بل وللقاء الشيخ بعد المحاضرة . ورغم أن الشيخ البنا كان معروفًا بأنه خطيب مُفَوَّه يأسر لبابَ القلوب ، وكانت دعوتُه آنذاك تنتشر في مصر انتشارَ النار في الهشيم ؛ ولكني رفضتهُ تمامًا أن أخوضَ هذه التجربة؛ لأن هذا الفكر يتناقض مع قناعاتي»! («الجزيرة» السعودية. العدد (12391) السنة 46) .

دراسات عن نجيب وأدبه

       هناك دراسات كثيرة صدرت في شأن شخص نجيب محفوظ وأدبه . منها :

       1- المرأة في أدب نجيب محفوظ (المجلس الأعلى للثقافة – رسالة أكاديمية – للدكتورة فوزية العشماوي ، توافرت بها متطلبات البحث العلمي الأكاديمي ، من جدة ودقة ورصانة ، كانت أول رسالة دكتوراه نوقشت في جامعة أوربية عن نجيب محفوظ) .

       2- نجيب محفوظ : رواية مهولة ، وتجربة فريــدة (للمؤلف عيد حسين – الدار المصرية اللبنانية ، 2002م) .

       3- نجيب محفوظ : من قوت القلوب إلى جائزة نوبل (لرحاب عكاوي – دارالفكر العربي للطباعة والنشر ، 2006م) .

       4- في حبّ نجيب محفوظ (لرجاء النقاش).

       5- المرأة والجسد في روايات نجيب محفوظ (للمؤلف محمود سمير عثمان) .

       6- الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية (لجورج طرابيش) .

       7- الإخوان المسلمون في عالم نجيب محفوظ (للكاتب مصطفى بيومى – قام فيه بتحليل الموقع الذي تحتله الجماعة التي مازال يعتبرها القانون المصري الجائر محظورة ، في خريطة الإبداع الرائي والقصصي في مصر، من خلال الشخصيات الإخوانية التي ظهرت في إبداعات نجيب محفوظ، والتي عبّرت عن أفكار ورؤى الإخوان كما يراها نجيب تجاه الدين والمرأة والحياة السياسية . صدر الكتاب عن مؤسسة الكتاب اليوم .

       8- المجالس المحفوظية (لجمال الغيطاني).

       9- نجيب محفوظ في علمه المجهول (للدكتور علي شلش) .

*  *  *

*  *

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان – شوال 1428هـ = سبتمبر – نوفمبر 2007م ، العـدد : 9–10 ، السنـة : 31.